إنَّ سبيلَ العيشِ في الدنيا بعزةٍ وكرامةٍ يمرُّ عبرَ عدمِ الخوفِ من الموت. نعم، إن استطعنا أن نموتَ في سبيلِ مقدساتِنا التي نحن مكلفون بالذودِ عنها، أو إن استطعنا أن نُعِدَّ أنفسَنا للموت، فلسوفَ نتجرَّعُ لذَّةَ الوجودِ الأبديِّ ونحن ما زلنا في هذه الدنيا، وسنبلغُ في الآخرةِ نعيمًا يفوقُ كلَّ تصوراتنا. ويلفتُ رسولُ اللهِ الكريمُ أنظارَنا إلى هذه النقطةِ بكلماتهِ التي تلهبُ فينا العشقَ وتهبُ قلوبَنا القوةَ، إذ يقول:
**"لولا أن أشقَّ على أمتي ما قعدتُ خلفَ سريةٍ، ولوددتُ أنِّي أُقتَلُ في سبيلِ اللهِ ثم أحيا، ثم أُقتَلُ ثم أحيا، ثم أُقتَل.."**¹
فما أشرفَ وما أقدسَ الجهادَ والمجاهدةَ والموتَ في سبيلِ الله، حتى إنَّ سيدَنا (ﷺ) وهو في أوجِ كمالِه، إلى جانبِ أعباءِ النبوةِ والرسالة، ليتمنَّى أن يلتحقَ بالسرايا المقاتلة، ويتمنَّى أن يقاتِلَ ويُقتَل، ثم يُبعَثَ ويُقتَلَ من جديد، ويكرِّرَ هذا الشرفَ مرَّاتٍ ومرَّات.
إنَّ نيلَ هذا النعيمِ لهوَ توفيقٌ ينبغي لكلِّ ذي عقلٍ أن يطلبَه؛ ذلك أنَّ الحياةَ بلا جهادٍ هي حياةٌ ضائعةٌ سُدى. وإنَّ كلَّ عبارةٍ نطقَ بها سيدنا (ﷺ) في هذا الشأنِ لَهِيَ لافتةٌ للنظر حقًا. وهاكم مثالينِ على ذلك:
**"من ماتَ ولم يغزُ، ولم يحدِّثْ بهِ نفسَه، ماتَ على شُعبةٍ من نفاقٍ."**² أي أنَّ هذا الإنسانَ قد أسلمَ روحَه على أرضيةٍ من النفاق. وفي روايةٍ أخرى يقول (ﷺ): **"من لقيَ اللهَ بغيرِ أثرٍ من جهادٍ، لقيَ اللهَ وفيهِ ثُلْمَةٌ."**³
أي أنَّ مثلَ هذا الإنسانِ يأتي إلى المحكمةِ الكبرى وبهِ من النقصِ والثَّلْمِ ما يُخجِلُه ويحمِّرُ وجهَه.
إنَّ حولَنا، عن يمينِنا وشمالِنا، أعدادًا لا تُحصى من المسلمين وغيرِهم ممن يُقتَلونَ ظلمًا، ويُعتدى عليهم، وهم يئنُّون ويتوجَّعون. وكما أنَّ إغاثةَ المظلومِ واجبٌ علينا، فإنَّ إيقافَ ظلمِ الظالمِ واجبٌ علينا أيضًا. وعندما نوقفُ ظلمَ الظالم، فإننا في الحقيقةِ نُحسنُ إليه، لأننا بتقليلِ ظلمه نكونُ قد قلَّلنا من عذابِه. وإلا فإننا سنُساقُ إلى حضرةِ ربنا وقد أُخِذَ بأعناقِنا أخذًا أليمًا، سيكونُ من هولِهِ أن يُنسيَنا ما عاناهُ أولئكَ الذين كانوا يعانونَ أمامَ أعينِنا في الدنيا. فيا لهُ من شقاءٍ عظيمٍ أن يخرُجَ المرءُ إلى حضرةِ الربِّ بهذه الحالِ البائسة، وأن يُحشَرَ ويُنشَرَ على هذا النحو!
وفي حديثٍ آخر، يُخبرُ سيدُنا (ﷺ) أصحابَه الكرامَ بوقائعَ مستقبليةٍ من شأنِها أن تُدخِلَ الرعبَ في قلبِ كلِّ مؤمن. ومع كلِّ واقعةٍ يخبرُ بها، كان الصحابةُ يصيبُهم الفزعُ ويسألون: "أوَ كائنٌ ذلك يا رسول الله؟" فيجيبُهم (ﷺ): "وأشدُّ منهُ سيكون"، ثم يخبرُهم بالواقعةِ التي تليها. وهذا الحديثُ الذي رواه أبو يعلى وابنُ أبي الدنيا نصُّه كما يلي، يقولُ رسولُ الله:
"كيفَ أنتم إذا طغى نساؤكم، وفسقَ شبابُكم، وتُركَ جهادُكم؟"
فزعَ الصحابةُ بالطبعِ من هذا القول، إذ إنَّ عقولَهم لم تكنْ لتستوعبَ مثلَ هذه الصورة. نعم، لم يكونوا ليتصوَّروا حدوثَ مثلِ هذا المشهدِ ولو في مكانٍ يوجدُ فيه مؤمنٌ واحد. لذا سألوا من جديد:
"أوَ كائنٌ ذلك يا رسولَ الله؟"
فقال رسولُ الله (ﷺ): "نعم، والذي نفسي بيدِه، وأشدُّ منهُ سيكون." ثم استمرَّ الحديثُ على النحوِ التالي:
وما أشدُّ منهُ يا رسولَ الله؟
"كيفَ أنتم إذا رأيتُمُ المعروفَ منكرًا، والمنكرَ معروفًا؟"
أي: كيف سيكونُ حالُكم يومَ يُروَّجُ للزنى، ويُشجَّعُ قُطَّاعُ الطرقِ في المدنِ وخارجَها، ويُحتقَرُ الإيمانُ والقرآن، ويُلاحَقُ المؤمنون، ويُصوَّرُ القبيحُ جميلًا والجميلُ قبيحًا، وتبرَّأُ الدولةُ من كلِّ المنكرات، وفي المقابلِ يُعمَلُ بالمعروفِ والأوامرِ الإلهيةِ في الخفاءِ كأنها عيبٌ وعار؟
أوَ كائنٌ ذلك يا رسولَ الله؟
"نعم، وأشدُّ منهُ سيكون."
وما أشدُّ منهُ يا رسولَ الله؟
"كيفَ أنتم إذا أمرتُم بالمنكرِ، ونهيتُم عن المعروف؟" (أي: كيفَ سيكونُ حالُكم يومَ تمنعونَ أولادَكم عن الصلاة، وتتركونَهم همَلًا، وتأمرونَهم بالسوءِ بحالِكم ولسانِكم وسلوكِكم؟ والأنكى من ذلك، كيفَ سيكونُ حالُكم يومَ تُنسونَ أجيالَكم ذكرَ الله، وتتحدَّثونَ بالكفرِ باسمِ العلمِ والمعرفة، وتمحونَ اسمَ النبيِّ (ﷺ) الجميلَ من قلوبِهم؟ لكأنَّ رسولَ الله (ﷺ) قد رأى ما سيحلُّ بأمتِه واحدًا تلوَ الآخر، ورأى عصرَنا هذا والمجتمعَ الذي نعيشُ فيه رأيَ العين).
أوَ كائنٌ ذلك يا رسولَ الله؟
"نعم، وأشدُّ منهُ سيكون!" (وهنا نطقَ رسولُ الله، ناقلًا عن اللهِ جلَّ وعلا، هذه الكلماتِ المؤكَّدةَ بالقسم): **"وعزَّتي وجلالي، لأُسلِّطنَّ عليهم عندَ ذلكَ فتنةً تترُكُ الحليمَ منهم حيرانًا."**⁴
هذه هي قيمةُ ومكانةُ المسؤوليةِ التي نحملُها عندَ اللهِ (جل جلاله) ورسولِه (ﷺ). إنَّ في أعمقِ نقطةٍ من قلوبِنا ثقلَ وألمَ تبعةٍ استمرَّتْ لثلاثةِ قرون. وليس لداءِنا من دواءٍ إلا داءُنا نفسُه.
قد يكونُ الذهابُ إلى المسجدِ من عيدٍ إلى عيدٍ أو من جمعةٍ إلى جمعة، أو أداءُ فريضةِ الحجِّ ليُلقَّبَ أحدُنا بـ"الحاجّ"، مصدرَ عزاءٍ كافٍ لبعضِنا اليوم. ولكنَّ هولَ الوضعِ الذي نحنُ فيه ليسَ بالبساطةِ التي يمكنُ معها التغلُّبُ عليه بأداءِ الفرائضِ الشخصية. فليسَ لدينا أمامَ هذا الوضعِ الرهيبِ من سبيلٍ إلا القيامُ بواجبِ "الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ" بمنظومتِهِ الكاملة. ونحنُ الذين سنقومُ بهذا الواجبِ المقدَّس. نعم، كلُّ واحدٍ منَّا مكلَّفٌ بذلك شخصيًا، ولا ينبغي لنا أن ننتظرَ تكليفًا خاصًا من أحد. وإلا فلن يكونَ ممكنًا لنا النجاةُ من دوامةِ الفتنةِ التي وصفَها الحديث، والتي أقسمَ اللهُ جلَّ وعلا في نهايتِها بما أقسم، والتي تبدو وكأنها تصويرٌ لحالِ مجتمعِنا اليوم.
إنَّ الوحدةَ الإسلاميةَ تزيدُ المسلمَ رفعةً ومكانةً لدى سائرِ المجتمعاتِ والدول. فالأمةُ الإسلاميةُ نمَتْ واتسعَتْ وعاشَتْ بالوحدةِ والجهاد، وحينَ تفرَّقَتْ أصبحَتْ ذليلةً وألعوبةً في أيدي الآخرين. ويا ليتَ الأمةَ الإسلاميةَ لم تبتعدْ عن الوحدةِ وواصلَتِ الجهاد. أقسمُ باللهِ يا إخوتي! لو أننا لم نتركِ الجهاد... لو أننا عشنا بالجهاد، لكانت أوروبا بعمومِها تدفعُ لنا الجزيةَ منذُ 950 عامًا. نعم، ولكانَتْ كثيرٌ من دولِ العالمِ قد دخلَتْ في دينِ اللهِ أفواجًا.
قال رسولُ الله (ﷺ): **"ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ الليلُ والنهار، ولا يتركُ اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخلَهُ اللهُ هذا الدين، بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليلٍ؛ عزًّا يُعزُّ اللهُ به الإسلام، وذلًّا يُذلُّ اللهُ به الكفر."**⁵
وقد وعدَنا رسولُ الله (ﷺ) في حديثٍ صحيحٍ رواهُ الإمامُ أحمدُ بأنَّ المسلمينَ سيفتحونَ روما أيضًا. وكما تعلمون، فإنَّ روما هي عاصمةُ إيطاليا، وستُفتَحُ بإذنِ اللهِ تعالى. فقد سُئلَ رسولُ الله (ﷺ): **"أيُّ المدينتينِ تُفتَحُ أولًا: أقسطنطينيةُ أم رومية؟" فقال رسولُ الله (ﷺ): "مدينةُ هرقلَ تُفتَحُ أولًا."**⁶ أي أنهُ أخبرَنا بأنَّ إسطنبولَ ستُفتَحُ أولًا.
وبالفعل، فُتحَتِ القسطنطينيةُ في عامِ 857 هـ الموافقِ لـ 1453 م، أي بعدَ حوالي 850 عامًا من تاريخِ ورودِ الحديثِ الشريف. وإن شاءَ اللهُ ستُفتَحُ روما أيضًا، لأنَّ الحديثَ الشريفَ صحيح.
والآنَ، لنفترضْ أننا فتحْنا موسكو. وإنني أؤمنُ بأننا سنفتحُ روسيا إن شاءَ الله، لأنَّ مولانا العظيمَ قد أضلَّ الروس، فدفعَهم إلى حربِ أفغانستان. دخلَ الدبُّ الروسيُّ إلى خليةِ النحلِ الأفغانية، فهَيَّجَ النحل، فهاجمَهُ النحلُ ولدغَهُ في أنفِهِ وجسدِهِ كلِّه، حتى انتفخَ وتورَّم. بعضُهم لدغَهُ في أنفِه، وبعضُهم تحتَ إبطِه، وبعضُهم في فمِه. وهو الآنَ في حيرةٍ من أمرِه، لا يدري ماذا يفعل، وأينما فرَّ يطاردُهُ النحل. فأينما ذهبَ الروسُ تتساقطُ على رؤوسِهم الصواريخ. ضُرِبوا في ننجرهار، وهُزِموا في قندهار، وفي بكتيا، وفي كابول، ولوجر... خلاصةُ القولِ أنَّ الدببةَ الروسيةَ أينما هربَتْ، لدغَها النحلُ في أفواهِها وعيونِها وآنافِها وآذانِها. وإن شاءَ الله، قد فُتِحَ البابُ الآنَ للسيرِ نحو روسيا. لقد أرسلوا جنودًا من بخارى وطشقند وسمرقند. وعندما رأى هؤلاءِ الجنودُ المسلمونَ أنَّ الأفغانَ مسلمونَ أيضًا، كانوا يسألونَهم: "هل عندَكم قرآنٌ كريم؟" فإذا أجابَ الأفغانُ: "نعم"، كانَ الجنودُ المسلمونَ الذين تحتَ إمرةِ روسيا يعطونَهم أسلحةَ الكلاشنكوف ويأخذونَ منهم المصاحف.⁷
بعد أن يخوضَ المسلمونَ هذا النضالَ من أجلِ تحقيقِ الوحدةِ الإسلاميةِ ويصلوا إلى هدفِهم، سيبدأونَ حياةَ عزةٍ في الدنيا. وعندما تتحققُ هذه الوحدة، لن يتمكَّنَ أعداءُ الإسلامِ من ظلمِ المسلمينَ الذين يعيشونَ كأقلياتٍ في أيِّ مكانٍ في العالم، ولن يستطيعوا أن يبخسُوهم حقوقَهم، بل سيتمتَّعونَ بنفسِ المكانةِ والحقوق. وبهذهِ الهوية، سيكونُ المسلمُ في مصافِّ إنسانِ الدرجةِ الأولى في كلِّ مكانٍ على وجهِ الأرض.
¹: صحيح مسلم، الإمارة، ٢٨؛ صحيح البخاري، الإيمان، ٢٦؛ سنن النسائي، الجهاد، ٣.
²: صحيح مسلم، الإمارة، ١٥٧؛ سنن أبي داود، الجهاد، ١٧؛ سنن النسائي، الجهاد، ٢.
³: سنن الترمذي، فضائل الجهاد، ٢٦؛ سنن ابن ماجه، الجهاد، ٥.
⁴: الهيثمي، مجمع الزوائد، ٧/٢٨٠-٢٨١.
⁵: مسند الإمام أحمد، ٤/١٠٣، ٦/٤.
⁶: سنن الدارمي، المقدمة، باب ٤٣؛ مسند الإمام أحمد، ٢/١٧٦.
⁷: في ظلال سورة التوبة: دروس في الجهاد، للشيخ الشهيد عبد الله عزام.